الأحد، مايو 23، 2010

خطبة عن صور المنافقين والمنافقات

صور من المنافقين والمنافقات 4-1430هـ
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، في الجمعة السابقة كان الحديث عن المنافقين والمنافقات وذكرنا عن بيان خطرهم على الأمة وحيث أن منكم من اقترح أن تكون في خطبة أخرى يذكر فيها شيئاً من صفات المنافقين وبيان بعض صورهم في هذا الزمان فنقول وبالله التوفيق.
أنّ الله جل جلاله ذكر في كتابِه العزيز صفاتِ المؤمنين وصفاتِ الكافرين وصفاتِ وأخلاقَ المنافقين ذكرها سبحانه لنحذرَها ونبتعِدَ عنها. وقد يسأل سائلٌ فيقول: هذا النفاقُ هل هو خاصّ بمن كان في عهدِ النبيّ أم هذا النفاقُ عامّ؟ والجواب أنّه عامّ لكلّ من تخلَّق بأخلاقِهم واتَّصفَ بصفاتهم وعمِل بأعمالهم.
أيّها المسلم، إنّ أعمالَ القلوب لا يعلمُها إلاَّ علاّم الغيوب، ولكنّ الله جلّ وعلا قد يظهِر ما يسِرّه العبد على فلتَاتِ لسانه، ويظهَر أيضًا من تصرُّفاته وأعمالِه، قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30]. أجَل، تعرفُهم في لحنِ القولِ، تعرِفهم من خلالِ كلامِهم وأقوالهم ودِعاياتهم وما يقولونَه ويتحدّثون به.
أيّها المسلم، فليَكن حذرُك من النفاق عَظيمًا، واسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه.
سأل أميرُ المؤمنين عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه حذيفةَ بن اليمان صاحبَ سرِّ رسولِ الله فقال: يا حذيفة، أسألك بالله هل عدَّني لك رسولُ الله من المنافقين أم لا؟ قال: لا، ولا أزكّي أحدًا بعدك [1].
فهذا عمَر الفاروقُ ثاني خلفاءِ رسول الله، هذا عمَر يخشى أن يكونَ في أعمالِه نفاق، ويسأل حذيفةَ: هل عُدَّ من المنافقين أم لا؟ مع أنه من المجاهدين الصادقين، لكن حبُّ الإيمان وكراهية الشرِّ جعلَتهم يخافون على إيمانهم، ويسألونَ الله الثباتَ على إيمانهم، ويحاسِبون أنفسَهم عن أقوالهم وأفعالهم.
عباد الله : إنَّ من صفات المنافقين كراهيةَ أحكامِ الله ورسولِه والرضا بالقوانينِ والأنظمَة الوضعيّة عِوَضًا عن شرع الله الكامل؛ ذلك أنّ المنافقَ يرَى أنّ أحكامَ الشّرع ظالمةٌ جائرة، ويَرى أن أنظمةَ البشر وقوانينَهم عادِلةٌ منصِفَة، وتلك ـ والعياذ بالله ـ علامةٌ من علامات النّفاق، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60، 61]، وقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
ومِن صور المنافقين، تفضيلُهم أهلَ الضّلال وطريقةَ أهلِ الضّلال على أهلِ الإسلام، فيرَونَ الكافرَ الضالَّ سبيلُه وأعماله أفضلُ من أهل الإيمان مطلقًا، قال جلّ وعلا في كتابِه العزيزِ مخبِرًا عنهم في قوله: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]. فهم يفضِّلون طريقَ المغضوبِ عليهم والضالّين على طريقةِ أهلِ الإسلام والإيمان؛ لأنهم كافِرون بذلك في قلوبهم، فيرونَ طريقةَ أهل الكفر والضلال أفضلَ من طريقةِ أهلِ الإسلام.
ومِن صفاتهم أنَّهم أمَرَةٌ بالمنكر نُهاةٌ عن المعروفِ، فهم دعاةٌ لكلِّ رذيلة حربٌ على كلِّ فضيلة، الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67].
مِن أخلاقِ المنافقين فرَحُهم بذلِّ الإسلامِ وأهلِه وسرورُهم يضعفِ الإسلام، قال جلّ وعلا: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50].
مِن أخلاقهم السّخريةُ بالإسلام وأهلِه والاستهزاءُ بأحكامِه والتنقُّص لمبادئِه والطّعنُ فيه بكلِّ سبيل.
من أخلاقِهم الذميمةِ أنهم كُسالى عن الخيرِ، ولذا قال جل وعلا: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]. وهم لا ثباتَ لهم، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].
ومِن أخلاقهم أنَّ قلوبَهم وأيدِيَهم مع أعداءِ الإسلام ضدَّ الإسلام وأهلِه، أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [الحشر:11].
مِن أخلاقِهم تلوُّنُ أحوالِهم، فلا ثباتَ لهم على أمرٍ، بل هم متغيِّرو الفِكر دائمًا، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ [المنافقون:4].
مِن أخلاقِهم وصفُهم أهلَ الإسلام بالذّلِّ والهوان، ووصفُهم أعداءَ الإسلام بالعزّةِ، قال تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
أيّها المسلم، كم نسمَع وكم نقرَأ من أناسٍ يكتُبون وينشُرون مقالاتٍ تضادُّ الإسلامَ وأهله، كم ينشُرون وكم يكتبون وكم يذيعونَ أقوالاً تضادُّ الإسلام وأهلَه، تفوَّهت ألسنةُ أولئك بما انطوَت عليه قلوبُهم من العداءِ لله ورسولهِ وكراهيةِ ما جاء به محمّد ، قال تعالى عَنهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26].
تأمَّل كتاباتِهم، وتأمّل ألفاظَهم، واستمِع إلى ما يذيعون ويقولون ؛ لتعلَمَ حقيقةَ أمر أولئك.
إذا جاؤوا يتحدَّثون عن قضايا الأمّة تحدَّثوا عنها من منطلَقٍ سيّئ ومن تصوُّر خاطِئ ومن رأيٍ ضالّ ومن عقيدةٍ باطلة والعياذ بالله. خُذ مثلاً أنّهم يطعَنون في أحكامِ الله، ويزعُمون أنّ الشرعَ لا يصلح لهذه العصور، وأنّ شرعَ الله الذي بعَث به خاتمَ أنبيائه ورسله قد انتهى دورُه في الحياة، فلا مجالَ له في الحياة، لماذا؟ لأنّه الشرع الذي جاء عن ربِّ العالمين، وفي قلوبِهم مقتٌ لهذه الشريعة وكراهيّة لها وبُغض لها، فيرونَ أنّ الشرعَ قد انتهى دورُه في الحياة. إذًا بماذا تحكَم البشريّة؟ وبمَ تنظَّم أحوالها؟ إنما هو دعوةٌ لتنظيمٍ قانونيٍّ كافرٍ بعيدٍ عن الإسلامِ وأهلِه وتعاليمِه الصّالحة.
انظُرهم إذا تحدَّثوا عن نظُمِ الحياة ومناهجِ تعليم الأمة تحدَّثوا من منطلقٍ خبيث، فيَصِفون مناهجَ الأمّة وتعليمَ الأمّة بأنه الإرهاب وبأنه وبأنه.. فهم يريدون أن نربِّيَ أجيالَنا حاضِرًا ومستقبلاً على غيرِ الدين، يريدون أن ينشَأ النشءُ لا يعرِف الدينَ وأهلَه، ولا يعرِف أصولَه ولا فروعَه، منقطعًا عن دينِه، مبتور الصّلةِ بماضيه، لا علاقةَ له بماضيهِ بأيِّ صِلَة، هكذا يدعو أولئك.
إذا تحدَّثوا عن وحدةِ الأمّة واجتماع كلِمتها أرادوا أن يجعَلوها وحدةً بعيدة عن الدين قائمةً على غيرِ أصولِ الشرع، والله يقول لنا: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
إذا تحدَّثوا عن قضايا المرأةِ المسلِمة أتوكَ بكلِّ غريب، وكأنهم يغيظُهم أن يرَوا في المسلماتِ متحجِّبةً عفيفة صيِّنة، يريدون خَلعَ جلبابِ حيائها، ويريدون تذويبَ شخصيّتها، ويريدون القضاءَ على حيائها وفضيلتِها.
إذا تحدَّث أولئك عن ملتَقَياتِ الأمّة ومجتمعاتها وأنديَتِها وكيف تخدم هذه الأنديةُ قضايا الأمة رأيتَهم [يجولون ويصولون]، لكنّهم أحيانًا قد لا يصرِّحون، لكن فلتَاتُ اللّسان تدلّ على أنهم يريدون للأمّة نقلةً من دينٍ وخلُق واستقامةٍ إلى آراء شاذّة علمانيّة بعيدة عن الإسلام وتعاليمِه الخالِدَة.
أيّها المسلم، أيّها الكاتب، أيّها الناشر، أيها الممثل اتّقِ الله فيما تقول وتتحدّث،وتعرض، وليعلَم كل منا أن ّ الله مجازيه ومحاسبُه عن ألفاظِه عن كلماته عن أقواله ، فإن كان يقول حقًّا فليحمدِ الله، وإن قال باطلاً فليعلَم أنّ الله محاسبُه عن ذلك، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ((وإنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلِمة من سَخط الله ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغَت، يكتُب الله له بها سخطَه إلى يومِ يلقاه)) [3].
نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله :إنَّ النفاقَ وأهلَ النفاق للأسَف الشديد بدأت ألسِنتهم تنبسِط في الإسلام وأهلِه، وبدَؤوا يقولون باسم حرّيّة الرّأي والنشر، لكنها وللأسفِ الشديد استُغِلّت في حربِ الإسلام والطّعن في مبادئه وقِيَمه وفضائله وأخلاقِه التي شرَّف الله بها الأمّةَ ورفع قدرَها بهذا الدّين وحده.
ثم أني أحذِّر إخواني المسلمين منَ المنافقين وأخلاقِهم وصفاتهم وأعمالهم السيّئة ومقالاتهم الخطيرة وكتاباتهم الضالّة المنحرفة من أقوامٍ يحسَبون على الإسلام وأهله، وأنهم كُتّاب
فنسألُ الله الثباتَ على الإسلام، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. اللهمّ مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دينك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمرَكم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن نوح عليه ا لسلام

قصة نوح عليه السلام دروس وعبر 15-4-1430
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعرفوا ما منّ به عليكم من النعم، أرسل إليكم خير الرسل، وأنزل عليكم أفضل الكتب، وجعلكم خير أمة أخرجت للناس. وإن هذا القرآن الذي أنزله عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين بين فيه سبحانه أحكام الدين وسنن المرسلين وقصص الماضين، كل ذلك ليعتبر أولو الألباب ويتذكروا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .
وإن في النظر في سير الماضين لتسلية للنفس وتثبيتًا لها وتقوية للقلب وإسعادًا له، ينظر المسلم في تاريخ الأنبياء والصالحين فيرى أنهم قد ابتلوا وأوذوا حتى أتاهم نَصرٌ بعد تمحيصهم وتنقيتهم، فيطمئن قلبه، ويقوى جنانه، ويعلم أنه ليس وحيدًا في هذا الطريق، وأن الوصول إلى المقصود دونه قطع المفاوز كما قطعها من قد سبق.
عباد الله، لقد أكثر الله في القرآن من القصص تثبيتًا لقلب النبي ، وأمر رسوله أن يقص القصص ليتفكر فيها كفار قريش، لعلهم أن يتوبوا إلى ربهم ويعودوا إلى رشدهم: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، بل لقد أخبر الله أنه لم يقص عليه جميع قصص الأنبياء فقال: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ .
أيها المسلمون، قصص الأنبياء في القرآن كثيرة، وكل منها لها فوائدها وأحكامها، بينهم من طال انتظاره واشتدّ أذى قومه له، ومنهم من قتل، ومنهم من آمن به قومه في آخر الأمر، ومنهم من لم يؤمن به أحد، يقول النبي : ((عرضت علي الأمم فرأيت النبيّ ومعه الرهط، والنبيّ ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)). الله أكبر! نبي يبعثه الله في أمة من الأمم لم يؤمن به واحد منهم.
وأول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض نبي الله نوح، لقي من الأذى من قومه ما لقي، وصبر على أذى قومه صبرًا عظيمًا، يدعو قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن النار إلى الجنة، فلم يلقَ مجيبًا، بل لقي سخرية وتكذيبًا.
دعاهم إلى توحيد الله، وهذه دعوة الرسل كلهم: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، لكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. جادل هؤلاء عن باطلهم، واتهموا نبيهم بالضلال، وأنه ليس له فضل عليهم ولم يتبعه إلا ضعاف القوم، وهكذا كل قوم يقولون لنبيهم، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ . يدعو النبي قومه بالتي هي أحسن، فيردون عليه بالسوء، يتودد إليهم ويلين معهم، ولكن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.
لبث نبي الله نوح في دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، فما استجاب له إلا القليل، وأكثر ما قيل في عدد المؤمنين أنهم ثمانون نفسًا، كل هذه المدة ولم يؤمن به إلا النزر اليسير، بل إن زوجته وابنه لم يؤمنا به، فما أشدَّ صبر الرسل! وما أعظم أثرهم على الناس!
ولما طال عليه الزمن أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره بصنع الفلك، فبدؤوا يمرون عليه ويسخرون منه على هذا العمل، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ .
ولما صنع الفلك قال الله عنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ، وقال: رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَ فَاجِرًا كَفَّارًا الآية، قال الله تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ أي: نراها ونحفظها ثوابًا لنوح لأنه كفر به قومه، وأهلك الله قوم نوح، كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، استجابة لنبيه، وتصديقًا لوعده، وغيرة على أوليائه، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ .
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((لو رحم الله من قوم نوح أحدًا لرحم أم الصبي، لما نبع الماء وصار في السكك خشيت عليه وكانت تحبه حبًا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا، فلو رحم الله أحدًا لرحم أم الصبي)).
ولما أغرق الله الكفار وانتهى عذابهم قال: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، فهذا أثر الإيمان، وتلك عاقبة الكفر، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
هذه قصة نوح وقومه كما قصها الله في كتابه وعلى لسان نبيه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله شرح صدور المؤمنين للإيمان بفضله ورحمته، وأضل من شاء من عباده بعدله وحكمته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل للمتقين عقبى الدار، ولأهل الكفر والضلال الخزي والبوار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم القرار.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما قص الله عليكم، فإنما قص الله علينا هذه القصص لنتعظ بها، ولنحذر مما وقعوا به، فيصيبنا ما أصابهم.
في قصة نوح من العبر صبر الداعية على الأذى وتحمل المشاق في تبليغ الدعوة ولو طال الأمد، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَ خَمْسِينَ عَامًا ، ما كَلَّ نوح ولا ملَّ إلى أن أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فحينئذ دعا على قومه.
ومما ينبغي للداعية أن ينظر فيه أن لا ييأس ويقول: هؤلاء قوم لا خير فيهم، فيترك دعوتهم، بل يعيد ويبدئ فيهم، فيكثر النصح لهم، فليس هو أول من لم تقبل دعوته، فَلَيَأتين بعض الأنبياء يوم القيامة ولم يستجب له أحد.
ولا يغضب الداعي والناصح والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عند عدم الاستجابة له، فإنما عليه البلاغ، وهداية الناس إلى الله، لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ، وليثق المسلم بنصر الله، ويطمئن إلى وعد الله، فالله لا يخلف الميعاد.
وفي الحديث عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسّد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)) رواه البخاري.
فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

خطبة عن ستر العورة

ستر العورة 13- 5-1430
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله، لقد جاء الإسلام بتكريم بني الإنسان في مجالات متعددة، كان من أبرزها أن أكرمه الله بأمره بستر عورته وسمى ذلك زينة، ونهاه عن كشف العورة وسمى الكشف عن العورة فتنة، فقال عز من قائل: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . لقد نزلت هذه الآيات في العرب أهل الجاهلية الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فأنكر الله عليهم هذه العادة القبيحة الذميمة.
لقد جعل الله ستر العورة متلازما مع التقوى فقال جل شأنه: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ . فاللباس لباسان: لباس للأجساد ولباس للقلوب والبواطن، وما أكثر اهتمام الناس بلباس الأجساد على العري الفاضح الذي فيه، وما أشد إهمالهم للباس البواطن، وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ . وكل من لديه شعور بتقوى الله والحياء منه فإنه ينبثق منه الشعور بالحياء واستقباح كشف العورة، والذي لا يتقي الله ولا يستحي منه لا يهمّه أن يتعرى وأن يدعَى إلى العري وأن يجيب؛ لانعدامه من التقوى والحياء.
عباد الله، إن التجرد عن ستر العورة ردّة إلى الحيوانية وعودة إلى الحياة الجاهلية البدائية، وإن من أعز ما يملكه الإنسان الحياء والعفاف والشرف؛ ولهذا جاءت الشريعة المطهرة بستر العورة، وستر العورة وقاية لأنه يساعد على غض البصر الذي أمر الله به، ولهذا ذكر الله هذا بعد هذا فقال سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ الآية. فتأمل ـ يا عبد الله ـ كيف جعل الله ستر العورة وراء الأمر بغض البصر دلالة على أن ستر العورة يساعد على غض البصر، وأنه إذا أردنا تحقيق غض البصر للرجال والنساء فلا بد من ستر العورات وحفظها.
هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم من الأمر بستر العورة، أما السنة ففيها الكثير، قال رسول الله : ((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد، ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد)) رواه مسلم، وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك))، قلت: يا رسول الله، فالرجل يكون مع الرجل؟ قال: ((إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل))، قلت: الرجل يكون خاليا؟ قال: ((فالله أحق أن يستحيى منه)) رواه أحمد بسند حسن.
فأين هذا الحياء والستر ممن يجتمعون في حمامات السونا والبخار ومن يجتمعون في المسابح والنوادي وقد كشفوا عن عوراتهم من أفخاذ ونحوها ولربما أشد من ذلك وأعظم؟! نعوذ بالله من مسخ الفطر وقلة الحياء والأدب. قال رسول الله : ((إياكم والتعري؛ فإنّ معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم)) يعني الملائكة.
بل قد جاء التوجيه النبوي بستر العورة وحجبها ليس عن أعين الإنس فحسب، وإنما حتى عن أعين الجن، فقال النبي في الحديث الذي رواه ابن ماجة والترمذي وصححه الألباني عن علي رضي الله عنه: ((ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الكنيف أن يقول: بسم الله)).
أيها الإخوة، من الأمور التي بينتها الشريعة حدود العورة؛ حتى يعرف الإنسان ما يجب عليه أن يستر وما ينبغي أن يستر، فعورة الرجل عند جمهور العلماء ما بين السرة والركبة والفخذ عورة كما قال النبي : ((الفخذ عورة))، ومر النبي عليه السلام على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: ((يا معمر، غطّ فخذك؛ فإن الفخذ عورة)).
أما المرأة فإن جميع بدن الحرة عورة على الصحيح من أقوال أهل العلم،
عباد الله: يقول الله تعالى: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ، وهو نداء لأزواج النبي وبناته ونساء المؤمنين، فدل هذا الأمر على وجوب ستر الوجه بإرخاء الجلباب، وقال في نفس الآية: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ، وكيف لا تعرف المرأة إلا إذا سترت وجهها، لأنها لو كشفت وجهها عرفت.
فالمرأة جميع بدنها عورة لأنها كلها عورة؛ لقول رسول الله : ((المرأة كلها عورة))، ولم يستثن شيئا، بل قال : ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)). وعلى هذا فلا يجوز أن يظهر من المرأة للأجانب شييء من جسدها ولا حتى قدمها أو يدها، بل يجب عليها أن تغطي جميع جسدها.
أيها المسلمون، في هذا العصر تأملوا كم خالفت البشرية أمر الله ورسوله بستر العورة، كشفوا العورات على السواحل والشواطئ وفي المنتجعات وفي الأماكن التي يسمونها سياحية، كشفوا العورات في الأسواق ومشاغل الخياطة والمطاعم العائلية، وأصبح كشف العورات من سيما البهائم البشرية في هذا الزمان، حتى صار هناك في بعض المجتمعات الغربية أندية للعراة والعري، فرجعوا إلى حياة البهائم رغم ما هم عليه من التقدم الصناعي والزراعي والتجاري، ولكنهم فيما يتعلق بالحياء والإيمان فهم أدنى مستوى من البهائم.
وإن مما يندى له الجبين أن من المسلمين اليوم من يقلّدون الكفار ويسيرون على نهجهم في كشف العورات إلا من رحم الله، فترى بعض الرجال من المسلمين اليوم يلبسون هذه السراويل القصيرة (الشورت)، ويمارسون لعبة الجري في الشوارع، وآخرون يجلسون في المجالس وليس تحت ثيابهم سراويل طويلة، فيرفع أحدهم رجلا على رجل ونحو ذلك فتنكشف أفخاذهم ويجاهرون بذلك.
أما كشف العورات ومناظر الخزي والعار لدى النساء فحدث ولا حرج، فمن ذلك الملابس الفاضحة في الأفراح، والعياذ بالله.
قال رسول الله : ((سيكون آخر أمتي نساء كاسيات عاريات ـ بمعنى تستر بعض بدنها وتكشف بعضه، وقيل: تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها ـ على رؤوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات)) صحيح، وفي رواية لمسلم: ((لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
هكذا تحرص الشريعة ـ أيها المسلمون ـ على ستر العورات وترهّب من كشفها وإبدائها، فالمرأة المسلمة مطالبة بستر جسدها كله أمام الأجانب، بل وحتى وهي في الصلاة مع النساء لا يجوز لها أن يظهر منها إلا وجهها وكفيها، فجميع بدنها وهي في الصلاة عورة عدا الوجه والكفين، فتغطي قدميها، ويكون لباسها ساترا عاما لا يصف ولا يجسم.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين والمسلمات في كل مكان يا حي يا قيوم.
أقول ما قد سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم...

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله الذي أنعم علينا بأن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد الذي ما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، والتزموا نهج دينكم وسنة نبيكم؛ تفلحوا وتفوزوا وترشدوا وتنجحوا.
عباد الله، ها نحن نسمع كل صباح ما يندى له جبين المؤمن الحر الغيور من قضايا ومصائب وحوادث وفتن من خطف للفتيات ومعاكسات وتحرشات وابتزاز وانتهاكات وجرائم وموبقات، نسأل الله أن يسترنا وإياكم في أعراضنا وأهلينا.
ألا وإن من أعظم الأسباب لهذه الجرائم أو الفتن التساهل ـ أيها الآباء والأولياء ـ في حجاب النساء والفتيات وخروجهن بلا محرم أو ولي، ومصداق ذلك قول أحكم الحاكمين رب العالمين سبحانه وتعالى حيث يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ . إن الحجاب والستر والحياء والحشمة والعفاف والصيانة مانع لتعرض المرأة للأذى، بل إنك لا تكاد تجد امرأة أو فتاة متحجّبة مستترة عفيفة تتعرّض لأذى أو يجرؤ أحد من الساقطين أن يلمزها أو يؤذيها إلا أن يكون منها سبب وتفريط ودعوة وسفور.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ في أعراضكم وأهليكم، واعلموا أنكم مسؤولون، ((فكلكم راع وكل مسؤول عن رعيته))، فالزوج راع وهو مسؤول عن زوجته، والأب راع وهو مسؤول عن أهله وبناته، والأخ راع وهو مسؤول عن أمه وأخواته، وكلكم راع وكلٌّ مسؤول من الله جل جلاله عن رعيته: أحفظ أم ضيع؟
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي اليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة من كل شر.
عباد الله : صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن الكبر

ذم الكبر
أيها الناس: قال لي صاحبي وهو مهموم لماذا لا تتحدث عن التواضع وذم الكبر، فإنني أرى في بعض القوم كبراً وتيهاً ظاهراً لا يخفى على من له أدنى بصيرةٌ.
قلت: إي والله: وقد رأيت ما رأى صاحبي أمراً ظاهراً جلياً، ولخطورة هذا الأمر البالغة ولتعلقه بالتوحيد نتحدث فيه، لأن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر إنما هو في الحقيقة معتد على مقام الألوهية لأن الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري. فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في جهنم)) فليسَ بغريب إذاً أن نجد التواضع من سيماء الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [المائدة:54]. وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال تعالى: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]. وقال جل وعلا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. في آيات كثيرة جداً في كتاب اللهِ العظيمِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ)).
الله أكبر: إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منـزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.
إخواني يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا بأن تكون محبته مقدمة على كل محبوب من البشر.
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إنه سيد ولد آدم. ليس فوقه أحد من البشر - حاشاه صلى الله عليه وسلم - إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهاً وقدراً عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له صلى الله عليه وسلم. إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تأمل أخي المؤمن إلى تواضعه العجيب صلى الله عليه وسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه يقول: ((
ولا تصدقنا ولا صلينـا والله لولا الله ما اهتدينا
وثبت الأقدام إن لا قينـا فأنزلن سـكينة علينـا
إذا أرادوا فـتـنـة أبينا إن الأُلى قد بغوا علينـا
ويرفع بها صوته: أبينا، أبينا)).
رعيه الغنم وتحدثه بذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله نبينا إلا وقد رعى الغنم وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)) قال أهل العلم: رعى الغنم وظيفة ارتضاها الله لأنبيائه.
فما السر في ممارسة الأنبياء لها؟
قالوا: إن من أسرارها أنها تربي النفوس على التواضع وتزيد الخضوع لله تعالى. ومن أسرارها أنها تربي على الصبر وتحمل المشاق إلى حكم كثيرة وهو الحكيم العليم.
وأيضاً تواضعه مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان.
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم)) يأتي ضعفاء المسلمين. فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤولية أمته، ولا كثرة الارتباطات والأعمال: أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيباً من الزيارة والعبادة واللقاء.
فأين أنتم يا أصحاب الجاه والسلطان من هذا الخلق العظيم؟ أين أنتم أيها الأغنياء من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم.
إذا أردتم حلاوة الإيمان أن تطعموها. فهذا هو السبيل إليها فلا تخطئوه.
أيها المسلمون: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: ((كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم)).
إنك ترى - في عصرنا هذا - من يترفع عن المتقين من الرجال فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟
إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصباً، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض!
ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي المسلم تأمل يا رعاك الله في هذين الحديثين:
عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سأل رجل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته).
وعن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: (كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة).
ماذا يقال عمن يفعل مثل هذا اليوم؟ محكوم للمرأة. ولكنه النور الذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه صلى الله عليه وسلم وتعلو، فليقل السفهاء ما يحلو لهم أن يقولوا.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها.
اللهم يا كريم يا منان أكرمنا باتباع رسولك صلى الله عليه وسلم واجعلنا ممن يعظم هديه وسنته إنك سميع عليم قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.



أيها المسلمون: قال الله تعالى: تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: بغير حق: وقال ابن جريج: لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلأرْضِ تعظماً وتجبراً وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس)).
وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)).
كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
قال الحسن رحمه الله: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه. . وكلها منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين.
وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة فإن آدم عليه السلام عصي مشتهياً فاستغفر فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن.
أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضع له. ومن تكبر كان فاقداً لتقواه. ركيكاً في دينه مشتغلاً بدنياه.
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعاً على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعاً فهو رفيع القدر.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه إلى طبقات الجو وهو وضيـع
ومن استشعر التواضع وعاشه. وذاق حلاوته كره الكبر وبواعثه ورحم أهله ورأف لحالهم نعوذ بالله من حالهم.
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل - أي يغوص وينزل - في الأرض إلى يوم القيامة)).
أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها وقضهما وقضيضها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل.
أحلام ليل أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا. فقال: (لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها).
أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ [آل عمران:139]. فتارة فقر، وتارة عنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة منصب، وهكذا.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال. وهو تقوى الله عز وجل والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه، والله المستعان.
مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة.
وأخيراً: اعلم أخي المسلم: أن الكبر من أخلاق الكفار الفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن الله تعالى وصف الكفار بالكبر فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. وقال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين. .

خطبة عن آية الليل

آية الليل 22-4-1430هـ
أمّا بعدُ: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلامِ بالعروةِ الوثقَى.
أيّها المسلمونَ، خلَق الله الخلقَ وَأَتقَنَه، ودبَّر ما خلق فقدَّره، وفتَقَ السماءَ عن الأرض وزيَّنها، وجَعَلَ اللّيل والنهار آيَتَين، فمحا آيةَ الليل وجعَل آيةَ النهار مُبصِرة، يغشي الليل النهارَ، ويكوِّر النهار على الليل بمقدارٍ يعلمه، وجعل الليل بعد إدبارِ النهار آيةً من آياتِ الله الدالَة على وحدانيّته، قال عزّ وجلّ: وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ [يس: 37].
أقسَمَ الله بولوجِه على النهارِ شيئًا فشَيئًا من غير إفزاعٍ للبشر فقال: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير: 17]، وأقسم به إذا غشِي الشمسَ حين تغيب: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس: 4]، وإذا غطَّى الخلائق بظلامِه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل: 1]، وأقسم به إذا سكَن فأظلم: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى: 2]، وإذا جمع ظلامَه وادلهمَّ: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق: 17]، وإذا كشف غطاءَه عن الخلقِ فاستناروا: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33].
وهو آيةٌ تُرى بالأبصار تدعو إلى تعظيم الله وإفراده، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان: 29]، ورحمةٌ من رحمته بعباده: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [القصص: 73].
وتقليبُ الليلِ والنّهار برهانٌ على قوَّته وإحكام مُلكِه، وبيَّن عجزَ الخلق جميعًا على أن يحوِّلوا الليلَ نهارًا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء [القصص: 71]، وتدبيرُه له بتقديرٍ يجهَلُه البشر: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [المزمل: 20].
والتفكُّر في تدبيرِه يدعُو إلى عبادةِ الله وذكرِه وشكرِه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62]. وهو مِنَّةٌ من الله أمَر عبادَه أن يشكروه عليها: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر: 61]. وهو داعٍ إلى إيمانِ العبادِ بربِّهم: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86].
في الليلِ يتثاقَل أهلُ النفاقِ عن الطاعةِ، فأثقَلُ صلاة عليهم صلاةُ العشاء والفَجر، وهو زمَن التعبُّد؛ النافلةُ فيه أفضلُ من نافلةِ النّهار، قال عليه الصلاة والسلام: ((أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم. وتعلُّقُ القلوبِ فيه بالله أرجَى، فأمر الله رسولَه بالإكثارِ من الصلاةِ والتسبيحِ فيه: قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً [المزمل: 2]، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان: 26]، واقتفى الصالحون أَثَرَه فكانوا قليلاً من الليل ما يهجَعون.
وفيه صلاةُ الوتر، واللهُ وِتر يُحبُّ الوتر، وصلاةُ آخر الليل مشهودة، ومن صلَّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصفَ الليل، ومن صلَّى الفجرَ في جماعةٍ فكأنما قام الليلَ كلَّه. و((في الليل ساعة من مغيبِ الشمس لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأَل الله من خَيرَي الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه)) رواه مسلم، وفي الثلثِ الأخير منه ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له. وهو زمنٌ تُرجَى فيه توبةُ التائبين، نزَلت توبةُ الذين خُلِّفوا في الثلُث الأخير من الليل. رواه البخاري.
وفي صلاةِ الفجر تجتمع ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، والقرآن نزَل ليلاً، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ [الدخان: 3]. وأفضلُ زمن لتلاوته هو اللّيل، قال عزّ وجلّ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل: 6].
وفيه ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شَهر. وأُسرِيَ بالنبيِّ ليلاً، وفي الليل تُطوَى الأرضُ للمُسافر، واللّيلُ بظلامه مُفزِع، ((ومن قرأ آيتين من آخرِ سورة البقرةِ في ليلة كفتاه)) أي: من الشرور. متفق عليه.
وفي أول الليل تنتشر الشياطين، فأمَر النبيُّ إذا كان جنح الليل ـ أي: أوّله ـ بكفِّ الصبيان، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلُّوهم. متفق عليه.
والنومُ من نِعَم الله الجسيمة، يحتاجه الغنيّ والفقير. وبِفضل من الله جعله يسيرًا في كلّ مكان، ويناله كلّ مخلوق بلا ثمَن، ليس بمتاعٍ يحمله المسافِر فيجهَد، ولا بذِي ثمَن يفقِد الفقيرُ ثمنَهُ فيحزَن، ولا ذِي عَرَضٍ يعجز الضعيفُ والصغير عن نقلِه. تُغمَضُ العينانِ فترتَفع الروح، فينالُ الجسدُ الراحةَ والسكون، قال عز وجل: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ: 9]. وهو من آيات الله العظيمةِ الدالةِ على قوَّته وجبروته، قال جلَّ شأنه: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم: 23]. يميتُ البشرَ بالنوم ثم يوقِظهم متى شاء إذا شاءَ.
قضَى عزّ وجلّ أن تكونَ نَومةُ أهلِ الكهف ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعًا، فكان ما شاء، وهو سبحانه حيٌّ قيّوم لا تأخذه سِنة ولا نَوم: يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]، قال النبي : ((إنَّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفِض القسطَ ويرفعُه، يُرفَع إليه عمَل الليلِ قبلَ عمَل النهار، وعملُ النهار قبلَ عمل الليل)) رواه مسلم.
والشيطانُ يتخبَّط العَبد في منامِه، و((من قرأ آية الكرسي قبلَ نومه لم يزَل عليه من الله حافظ، ولم يقربه شيطانٌ حتى يصبح)) رواه البخاري.
ولا تشريعَ بالمنامَاتِ، والرؤيا الصالحةُ في النومِ من الله، والحلُم من الشيطان، ((فمن رأى رؤيا صالحة فليحمدِ الله عليها، وليُحدِّث بها من يحبّ، ومن رأى حلُمًا من الشيطان فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليتعوَّذ بالله من شرِّها، وليتَحوَّل عن جنبِه الذي كان عَليه، ولا يُحدِّث بها أحدًا؛ فإنها لا تضرُّه)) متفق عليه.
والنومُ قسيمُ الموت ويُذكِّرُ به، قال سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42]. وكم من نائمٍ ماتَ في نَومَته، ومِن دعاء النبيِّ عند نومِه: ((إن أمسَكت نفسي فارحمها)) متفق عليه.
وإذا نام العبد عقَد الشيطان على قافِيَتِهِ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضرِبُ على كل عُقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقُد، فإن استيقَظ فذكَر الله انحلَّت عُقدَة، فإن توضَّأ انحلَّت عُقدَة، فإن صلَّى انحلَّت عُقدَة، فأصبَح نشيطًا طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان.
والاستيقاظُ بعد النومِ نِعمةٌ من الله تُشكَر، وكانَ النبيُّ إذا استيقَظَ قال: ((الحمدُ لله الذي أحيانَا بعدما أماتنا وإليه النشور)).
ودعوةُ المستيقِظ من اللّيل مع الذّكر مستجابَة، وصلاتُه مقبولة، قال عَليه الصّلاة والسّلام: ((مَن تَعارَّ من الليل ـ أي: استيقظ ـ فقال: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير، الحمدُ لله، وسبحانَ الله، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أَكبر، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بِالله، ثم قال: اللّهمّ اغفر لي، أو دعا إلا استُجِيبَ له، فإن توضَّأ وصلّى قُبِلت صلاتُه)) رواه البخاري.
ومَن نام ولم يستيقظ للصّلاة حتى يصبِح بالَ الشيطانُ في أذنِه. وكان النبيُّ إذا قامَ مِنَ الليل يَشُوصُ فاهُ بالسّواك. ومنِ استيقظ من نومه فليذكر الله، وليغسل يديه ثلاثًا، وليستنثر ثلاثًا؛ فإنَّ الشيطان يبيتُ على خيشومه.
والسعيدُ مَن تفكَّر في خلقِ الأرضِ والسماوات، واغتَنَم أنفسَ دهره بالقرُبات، ودخل في ليلِه وخرج منه بالأعمال الصالحات ومجانبةِ السيَّئات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 33، 34].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَني الله وإيَّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِرُ الله لي ولكُم ولجميع المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيّها المسلمون، عُمر الإنسان ليلُه ونهاره، ومنزلته في الآخرة بأعمالِه في الدّنيا، وساعاتُ الليلِ خيرُ أزمانِ الأعمار، وولوجُ ليلِ كلِّ يوم يُدنِي من الحِساب، والبصيرُ من سابَقَ إلى الخيراتِ وابتعَدَ عنِ السيِّئات، والله مُطَّلِعٌ على عبادِه بالليلِ والنهارِ، يعلَم سرَّهم وعلانيتَهم وما اقترفوه من سيِّئات، فاجتهدوا في طاعةِ ربكم، وتدبَّرُوا أحوال دهركم.
ثم اعلموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّهِ، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا محمد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معَهم بجودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدِّين، واجعل اللّهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين...اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعلنا ممن أطاعك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم انا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
اللهم ارزقنا حبك وحبَ من يحبك وحبَ كلِ عمل صالح يقربنا من حبِك، أعمر بمحبتك قلوبَنا، وأنزل سكينتك على نفوسنا
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن النفاق والمنافقين

النفاق والمنافقون 30-3-1430هـ
عباد الله، ابتلى الله تعالى عباده فجعل لهم أناسًا على طريق الخير يدلونهم إليه، وأناسًا على طريق الشر يؤزونهم إليه، ومن بين الفئات التي تقف على طريق الشر فئة تنامى خطرها وتتابع ضررها، فئة آذت رسول الله  وآلمته، فحذرنا منها وخشي  على أمته تأثيرها على أبنائها.
أيها المسلمون، لقد ظهرت تلك الفئة في المدينة على عهد المصطفى ، فتكاثر عددها وتناسل أبناؤها، وامتد نسلهم ـ لا كثّرهم الله ـ إلى زماننا هذا، فرأينا أحفادهم في زماننا، لا يختلفون في مظهرهم عنا، وهذا مكمن المصيبة، فهم وللأسف من بني جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا، وينتسبون لديننا، وينتمون لأوطاننا. فهل عرفتم ـ عباد الله ـ تلك الفئة الفاسدة من بيننا؟ إنها فئة المنافقين والمنافقات.
أيها المسلمون، الحديث عن النفاق والمنافقين سواءً في السابق أو في اللاحق حديث يبدأ ولا ينتهي، فقد جاء الحديث عنهم في أكثر من نصف سور القرآن المدنية، إذ ورد ذكرهم في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق الحديث عنهم ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية من كتاب الله العزيز، حتى قال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كلّهُ في شأنهم".
عباد الله، لقد صدَّر ربكم سبحانه أطول سورة مدنية في القرآن ـ سورة البقرة ـ بذكر صفات المنافقين والتحذير من خطرهم، فذكر سبحانه في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم وبليتهم على الإسلام وأهله، فهم ـ كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى منسوبون إلى الإسلام وهم أعداؤه على الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب حتى ليظن الجاهل أنهم على علم وإصلاح، فيا لله كم من معقل للإسلام هدموه، وكم من حصن قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم قد طمسوه، وكم من لواء مرفوع قد وضَعوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسهِ ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سَريةٌ بعد سرية، ويزعمون بذلك أنهم مصلحون، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ [البَقَرَةِ: 12].
أيها المسلمون، اليهود أعداؤنا، والنصارى أعداؤنا، والرافضة أعداؤنا، ومع عداوة هؤلاء وكيدهم لنا إلا أن المولى سبحانه حصر العداوة بالمنافقين في قوله تعالى سبحانه: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [الْمُنَافِقُونَ: 4]؛ وذلك لإثبات الأولوية والأحقية للمنافقين بهذا الوصف، ولا يراد منه كما يقول ابن القيم رحمه الله: "لا يراد منه أنه لا عدو من الكافرين سواهم، بل المعنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوًا من الكافرين المجاهرين بكفرهم، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أيام ثم تنقضي ويعقبها النصر والظفر، وهؤلاء ـ يعني المنافقين ـ معكم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدو على العورات، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل يصعب مناجزتهم".
عباد الله، رغم تطاول السنين وتعاقب الأجيال وترادف الأمم فإننا ما رأينا أوصافًا ذكرت في القرآن لطائفة من الطوائف كانت في زمان دون زمان، أو اختص بها مكان دون مكان، ولقد حدثنا القرآن عن المنافقين وأوصافهم وأخلاقهم ودسائسهم فما رأيناها تغيرت عبر الأزمان، ولا اختلفت باختلاف الأوطان؛ لأن الذي وصفهم في القرآن هو خالقهم، وهو سبحانه أعلم بدخائل نفوسهم وأوصاف قلوبهم، فكان وصفه سبحانه لهم متوافقًا مع ما نقرؤه عنهم وما نشاهده اليوم من أفعالهم، فالنفاق والمنافقون ليست مرحلة من التاريخ مرت وانتهت بل هي باقية، وشاهد ذلك قول حذيفة رضي الله عنه: (المنافقون الذين فيكم شرٌ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله )، ويقول الإمام مالك رحمه الله: "النفاق في عهد رسول الله هو الزندقة فينا اليوم". وإذا توسع مصطلح النفاق وتعددت مسميات المنافقين في عهد الإمام مالك رحمه الله أمكن أن يطلق على المنافقين في هذا الزمان أكثر من مسمى إذا توفرت فيهم سيما المنافقين، أما ابن تيمية رحمه الله فيقول: "والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة"، وكذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى معللاً ذكرهم في القرآن: "واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر سبحانه أوصافهم لأوليائه ليكونوا منهم على حذر".
أيها المسلمون، إذا تقررت محنة الإسلام والمسلمين بالمنافقين قديمًا وحديثًا كان لا بد من بيان سماتهم والتعرف على علامتهم، حتى يحذر المسلمون شرورهم، مع أن حصر صفاتهم والإحاطة بعلاماتهم أمر يطول ويصعب، لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
المنافقون ـ عباد الله ـ من أحسن الناس أجساما وألطفهم بيانا، أخبثهم قلوبًا وأضعفهم جنانا، كما يقول ربكم سبحانه في وصفه لهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [الْمُنَافِقُونَ: 4].
أيها المسلمون، إن من أبرز أوصاف المنافقين والمنافقات معاداة المؤمنين والتآمر ضدهم، وهذه الصفة هي التي عليها أقيم سوق النفاق وازدهر، وهي التي جعلتهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولأجلها يخادعون ويمكرون، وفي سبيلها أقيمت التحالفات الآثمة ونسجت خيوط المؤامرات العفنة بينهم وبين كل عدو للإسلام، وصور معاداتهم لكم ـ يا عباد الله ـ تتمثل في تمني الضرر والمشقة للمؤمنين والحزن لما يصيب المسلمين من الخير والفرح لما يسوؤهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آلِ عِمْرَانَ: 118-120].
بارك الله لي بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول ما قد سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قالها وعمل بها له دار السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام، ومن سار على نهجه واستقام.

أيها المسلمون، إن تاريخ المنافقين حافل بالسخرية بالدين والاستهزاء واللمز بالإسلام والمسلمين، والمتأمل في الآيات التي نزلت حول المنافقين سيقف بلا شك أمام كثرة سخريتهم من المؤمنين واستهزائهم وتهكمهم بهم، وهذا الفعل منهم أصبح علمًا عليهم لعدم تصور فعله من المؤمنين ولبعد الكفرة والمشركين عن مخالطة أهل الإيمان ومعرفة تفاصيل حياتهم، وهو الأمر الذي يزود المنافقين بمادة السخرية والاستهزاء، فيا ترى أيرتدع المستهزئون اللاحقون بالإسلام والمسلمين بحال أسلافهم وفضيحة القرآن لهم، أم تراهم لشدة جرمهم لا ينتفعون بواعظ القرآن ولا يستمعون لنصح أهل الإيمان؟!
عباد الله، ومن سيما المنافقين أيضًا أن ولاءهم للكافرين وإن عاشوا بين ظهراني المسلمين، فقلوبهم مع أعداء الدين وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين؛ لأنهم يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ولأنهم يسيئون الظن بالمسلمين، فهم يرتمون في أحضان أعدائهم لحمايتهم والاستقواء بهم.
هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن السحر

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا المعاصي فهي طريق الهلاك، فالغنا بريد الزّنا، والخمرُ أمُّ الخبائث، والكذب سبيل النفاق، وحبُّ الدنيا رأس كلِّ خطيئة.
أيّها المسلمون، داءٌ من أدواءِ الأمَمِ قَديمًا، ومُشكلةٌ من مُشكلات العصرِ حديثًا. إنه هو السّحر والسحرة والكِهانة والكهنة والدجل والشّعوذة.
عباد الله : الساحر شيطانٌ من شياطين الإنس، لا يحب الخير للناس، نزِعَت الرأفةُ والرحمةُ من قلبه ، همُّه المال وإيذاءُ الناس، لا يتوانى عن الكذب ولا يتورَّع عن الخداع والتلوّن.
الساحِر لا يكون ساحراً إلا بعد أن يكفر ويتقرب إلى الشياطين من الجن مما لم يأذَن به الله، يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ترى خلقًا كثيرًا من الضُّلال يدخلون في السّحر ويظنّون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه كفر". وفي الحديث: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدِّق بالسحر)).
لذا قرَّر أهل العلم رحمهم الله أنَّ تعلّم السحر محرمٌ، بل هو كفرٌ إذا كان وسيلتُه الإشراكَ بالجن والشياطين، يقول الإمام النوويّ رحمه الله: "وعمل السحر حرام، وهو من الكبائرِ بالإجماع، وقد عدَّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلَّم من السبع الموبقات، وتعلُّمُه وتعليمه حرام، فإن تضمَّن ما يقتضِي الكفرَ كفر"، وقال أبو بكر الجصّاص رحمه الله: "اتفق السلف على وجوبِ قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله : ((من أتى كاهنًا أو عرّافًا أو ساحرًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ))".
عباد الله، عمَل السحر بغيٌ ومكرٌ وخبثٌ وظُلم، والساحر يظلِم نفسَه ويغضِب ربَّه ويخسر دينَه ويوقع نفسه في سخط الله ومقته، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102]، وفي الحديث المتفق عليه: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يومَ الزحف، وقذفُ المحصنات الغافلات المؤمنات)).
ويدخل في ذلك ـ معاشر المسلمين ـ التنجيمُ والكهانة مما هو دَجلٌ وتخبطٌ من أجلِ أكل أموال الناس بالباطل وإدخالِ الهمّ والغمّ عليهم. هؤلاء المنجِّمون الدجّالون يستدلّون بالنجوم والكواكب وأحوالها وأبراجها ومنازلها وحركاتها واقترانها وافتراقها، يستدلون بذلك على الحوادث الأرضيّة وعلى أحوال الناس من شقاءٍ وسعادةٍ وحُظوظ، وكلُّ ذلك حرامٌ باطل، يقود بصاحبه إلى الكفر إذا اعتقد علمَ الغيب أو اعتقَد أنَّ لأحدٍ غير الله القدرةَ على التصرّف في الخلق، فذلك كلُّه كفرٌ بالله واستعانةٌ بغيرِ الله وشِركٌ به، تعالى الله عما يقول الظالمون الجاحدون المعاندون علوًّا كبيرا.
أيّها المسلمون، لقد عظُم الضرَر واشتدَّ الخطب بهؤلاء المفترين الذين يمارسون الدجل ويلبِّسون على ضعاف العقول، بالشعوذات والخرافات ووصفات العلاج الجاهلية التي تملأ الأرصفة والطرقاتِ في بعض البلدان الضعيفة والفقيرة، فمع الأسَف ما كان على هذه الأرصفة تنشره بعضُ القنوات والشاشات ليقَعَ التلبيس على الجميع كِبارًا وصغارا رجالا ونساء، فلا ينبغي الاستهانة بهذه الشعوذات الفضائيّة والوصفات الزائفة.
معاشر المسلمين، وممن يدخل في التحذير والوعيد الذين يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ليطلُبوا منهم أن يسحَروا غيرَهم من أعدائهم أو أصدقائهم، فمن سلك هذا المسلكَ فهو ظالم لنفسِه معتدٍ أثيم، غايته الانتقامُ من أخيه المسلم، يذهب إلى الساحر ليفرِّق بين فلان وفلانة، أو يمنعَ فلانًا من الزواج بفلانة، أو أن ينفّر فلانا من أهل بيته، وفي الحديث: ((ليس منا من تطيّر أو تُطيِّر له، أو تكهن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له)) رواه البزار بسند جيد. أين هؤلاء ألا يحذرون من عقوبةِ الله وقد جاء فيما معناه : لعَن رسول الله الساحرة والتي تسأل أن تسحرَ لها. سحر وحسد وحقد وظلم لأن فلانًا تزوّج فلانة، أو لأنّ فلانًا أنعم الله عليه بما أنعم وأعطاه ما أعطاه. فليتّق الله هؤلاء جميعا، وليستغفروا الله وليتوبوا إليه.
معاشر المسلمين، ويحرُم الذهابُ إلى هؤلاء الكَهَنة والسحرة والمشَعوذين والدجالين، ولا يجوز تصديقهم، فما أفعالهم ولا كلامُهم إلاَّ دجلٌ ورجمٌ بالغيب واستعانةٌ محرَّمةٌ بغير الله، وذلك كلّه حرامٌ في دينِ الله وكبيرةٌ من كبائر الذنوب يقود إلى الكفر والضلال، عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدَّقه بما يقول فقد كفَر ما أنزل على محمد )). قال بعض أهل العلم: إنّ من يأتي الكاهن فيسأله وإن لم يصدّقه لم تقبَل له صلاة أربعين يومًا، وإن سأله وصدّقه بما يقول فهو داخل في حديث: ((فقد كفر بما أنزل على محمد )).
نعم يا عباد الله، فليخشَ هؤلاء الذين يتعلَّقون بالسحرة والمشعوذين أن يكونَ ثمنُ ذلك دينَهم وإيمانهم، وليتفكروا فما بعثَهم على ذلك ولا دفعهم إليه إلا سوءُ ظنٍّ بربهم وخلل في عقيدتهم، وقد علموا أن السحر من عمل الشيطان.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أنّ السحرَ والكهانة والشعوذة والدجل فتنٌ تصدّ صاحبَها عن الحق وتعمي عن الهدى وتوقع في الضلال، ومن ابتُلي بها تعلّق بغير الله وابتعَد عن منهج الله وضلّ الضلال المبين. وإذا كان المرءُ حريصًا على أن يعرفَ الأمراضَ التي تؤذيه في بدنه فالأولى به مع ذلك أن يعرفَ الأمراضَ التي تضرّه في دينه وعقيدته وتقدَح في إيمانه، فأمراض العقائد والقلوب أشدُّ فتكًا وأعظم ضررُا من أمراض الأبدان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 102، 103].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الحمد لله، علّم بالقلم، وأنزل كتابه يهدي للتي هي أقوم، أحمده سبحانه وأشكره على وافر العطايا وجزيل النعم، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والكرم، وأشهَد أنّ سيدنا ونبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله سيد العرب والعجم، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الظُّلَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان، وسلّم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، إنّ طريقَ الوقاية والعلاج من كل داء بإذن الله هو طريقُ الإسلام وسبيلُ المؤمنين؛ من قوة الإيمان بالله وحسن التعلّق به وصِدق الاعتماد عليه والتوكّل واليقين، قال تعالى (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، وقال تعالى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) [الطلاق: 2]، وقال سبحانه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق: 4].
وليحصِّن العبد نفسه بالأدعية المأثورة من كتاب الله ومن سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، بقراءة المعوّذتين وسورة الإخلاص وآية الكرسي، ويقول صباحًا ومساءً: باسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ومن قرأ آيات السحر في سورة الأعراف ويونس وطه فإنّ كتاب الله هدًى وشفاء ورحمة للمؤمنين.
عبادَ الله، إن على أهلِ العلم والصّلاح خاصّة وعموم المسلمين التناصحَ والتواصيَ بالحق والتواصي بالصبر وفشوّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان في التربية، كما يجِب متابعةُ هؤلاء المشعوِذين والإبلاغُ عنهم، وعلى ولاةِ أمور المسلمين الأخذُ على أيديهم بحزمٍ وإيقاعِ الجزاء الرادع عليهم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وآمنوا به، واعتمدوا عليه، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
ثم صلّوا وسلّموا على نبيّكم محمد رسول الله، حيث أمركم بذلك ربكم، فقال عزّ من قائل عليما حكيما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبيّنا محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمّة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.... واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن وداع رمضان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد:
أما بعد: عباد الله، كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني ونبارك لبعضنا بدخول شهر رمضان المبارك هذا الموسم العظيم للمسلمين، وها نحن الآن على مشارف وداعه ونتلقى التعازي على فراقه، وهذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا الشهر المبارك لهذا العام، فسبحان مصرف الشهور والأعوام ومدبر الليالي والأيام، وسبحان الذي كتب الفناء على كل شيء وهو الحي القيوم الدائم الذي لا يزول، الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
وأوصيكم ونفسي المقصرة باغتنام ما بقي من ساعات هذا الشهر، فما بقي منه إلا القليل، فاجتهدوا رحمكم الله، وارفعوا أكف الضراعة إلى الله، وادعوه مخلصين له الدين؛ لعلكم أن توافقوا ساعة إجابة، فتكون سعادتكم في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة في الله، إن قلوب الصالحين إلى هذا الشهر تحنّ، ومن ألم فراقه تئن، وكيف لا وقد نزلت فيه رحمة رب العالمين؟! كيف لا تدمع على فراقه عيون المحبين وهم لا يعلمون هل يعيشون حتى يحضرونه مرةً أخرى أم لا ؟!
نعم والله يا إخوة الإسلام، إن القلوب لتحزن عند فراق هذا الحبيب، شهر الصيام والقيام، شهر المحبة والألفة شهر الرحمة والغفران، شهر البركة وانشراح الصدور، شهر رفع أكف الضراعة إلى الله، شهر العبرات والبكاء من خشية الله، فكم من معرض عن الله عاد إلى الله في هذا الشهر، وكم من إنسان مستوجبٍ دخول النار أعتقه الله من دركاتها،
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من العتقاء من النار.
أيها المؤمنون، وإن مما شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك صدقة الفطر لتكون آية على الشكر وسببا لتكفير الإثم والوزر وتحصيل عظيم الأجر وطعمة للمساكين ومواساة للفقراء المسلمين، وهي زكاة بدن تلزم كل مسلم يفضل عن قوته وقوة أهله ومن تلزمه نفقتهم، وهي صاع من طعام تخرج عن الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، وخصها رسول الله من القوت لأنه هو الذي تحصل به المواساة، فتخرج من قوت البلد، وإن كان من الأنواع المنصوصة فهو أفضل، ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نعطيها ـ يعني صدقة الفطر ـ في زمان رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب. فالأفضل الاقتصار على هذه الأصناف المذكورة، فإن لم توجد يخرج من بقية أقوات البلد، وذلك لسد حاجتهم يوم العيد عن السؤال لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم عن الطواف))، ولكن تذكروا قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
عباد الله، المقدار الواجب من زكاة الفطر صاع، وذلك يساوي حوالي كيلوين ونصفًا تقريبًا، وأفضل وقت لإخراجها بعد غروب شمس ليلة العيد، ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وتدفع لمستحقيها من أصناف الزكاة الثمانية، وأولاهم الفقراء والمساكين.
فاتقوا الله عباد الله، وتقربوا إلى الله بما شرع لكم، وتذكروا أن الآجال قواطع الآمال، واستحضروا سرعة الوقوف بين يدي الكبير المتعال، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بيّن لأمته طرق النجاة، وحذّر من طريق الغيّ والهلكات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: عباد الله، إنكم في ختام الشهر، ولم يبق منه إلا القليل، فمن كان في شهره مسيئا فليتب إلى الله توبة نصوحًا، وليلج باب التوبة ما دام مفتوحا، قبل غلق الباب وطي الكتاب.
إخوة الإيمان، اعمروا المساجد بالمحافظة على الصلوات وحضور الجمع والجماعات والتزود من النوافل وجميع الطاعات،
ومن فضل الله علينا أن شرع لنا في ختام هذا الشهر المبارك عبادات نتزود بها من الله قربًا ونعمل بها شكرًا، فمن ذلك التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد،امتثالاً لأمر الله القائل ـ{ ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون } - وذلك التكبير يقال في المساجد والأسواق والبيوت وغيرها، يجهر بها الرجال وتسر بها النساء، وصفتها: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، وللعلم فإن هذه السنة قد أميتت عند كثير من المجتمعات ولا حول ولا قوة الا بالله ،.
اللهم اجعلنا عندك من المقبولين، ولا تردنا خائبين، واختم بالصالحات أعمالنا يا رب العالمين.
عباد الله : صلوا على من امرتم بالصلاة عليه فاللهم صلي على نبينا محمد وعلى آل محمد .. ، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم واغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون و.........

خطبة عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله


عباد الله اتقوا الله حق التقوى

عباد الله بداية نهنئكم ببداية العام الهجري الجديد ونسأله أن يكون عام خير وعز ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين.
وكما نعلم جميعا أن بداية العام تذكرنا بهجرته صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة إلى المدينة بإذن من الله لينصر دينه ولعلنا هنا نستذكر بعض المواقف عنه صلى الله عليه وسلم إبان هجرته علنا أن نستلهم منها العبر والدروس فيوم أن علم عليه الصلاة والسلام عن عزم قريش بقتله وأنهم دبروا مكرا وخديعة ألا وهي أن يجمعوا من كل قبيلة واحد فيقتلوا قتلة رجل واحد فيتفرق دمه بين قبائل العرب إلا أن نصر الله قريب فنصر الله رسوله ويخرج من بيته من بين يدي المتربصين عند بابه شاهرين السيوف لقتله وهم لا يرونه { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) خرج صلى الله عليه وسلم من بيته موقن بنصر الله له{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} متوكل على الله فكان درسا عظيما لأولياء الله قاطبة أن يقتدوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم الواثق بنصر الله ، ثم خرج صلى الله عليه وسلم برفقته ابو بكر الصديق رضي الله عنه خرجا من مكة إلى المدينة سرا واختفيا في الغار مدة ثلاثة أيام عن أنظار قريش حيث أن قرش أعدت جائزة عظيمة لمن عثر عليهما ومع ذلك تأتي عناية الله لهما وحفظه وهما في الغار فكان أبو بكر خائفا فقال له صلى الله عليه وسلم لا تخف إن الله معنا فنزلت آية تتلى إلى يوم القيام {لا تخف إن الله معنا } ثم لما خرجا من الغار وسارا في طريقهما لحق بهما سراقة فلما اقترب منهما غارت الأرض بفرس سراقة ثم يخرج وتغار الفرس في الأرض وهنا أدرك سراقة أنه لن يستطيع الوصول اليهما لأنهما في حفظ الله فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجه ويخرج فرسه فاشترط عليه بأن يعمي أنظار القوم عنهما أي لا يرشدهم الى مكانهما، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى يدا سراقة وقد سقطتا على الأرض يخبر سراقة عن معجزة من معجزات النبوة فيقول يا سراقة كيف بك وقد لبست سيواري كسرا الله أكبر في خضم هذه الحادثة التي ما بين خوف ووجل وحياة وموت وطلب للنجاة يخبر عن شأن عظيم لهذا الدين وأنه سوف تكون له الغلبة وسوف يسقط ملك كسرا على أيدي المسلمين الواثقين بنصر الله وفعلا تحققة معجزة النبي صلى الله عليه وسلم على يدي جيش يستلهم النصر من الله واستولى المسلمون على ملك كسرا ووصلت مع الغنائم لعمر بن الخطاب سيواري كسرا واستدعا سراقة وألبسه سيواري كسرا تحقيقا للمعجزة الخالدة الثابتة على مر التأريخ.
عباد الله : إننا يوم أن نتأمل حالنا اليوم وما يجري على المسلمين من عدة نكبات متتالية وآخرها نكبة إخواننا في فلسطين في غزة الذين يسومهم أعداء الله الصهاينة سوم العذاب.
فكان هناك طرفان :
طرف وهم اخواننا في فلسطين في غزة كان عليهم الصبر والثقة بنصر الله وليعلموا ان الله ناصرهم لذا عليهم طلب النصر من الله أولاً ثم ألإستعانة بأسباب النصر ثانياً وعليهم أن يكونوا يدا واحدة ضد أعداءهم .
الطرف الآخر هو أنا وأنت هم من كانوا خارج فلسطين فكان علينا جميعاالدعاء لهم والإلحاح على الله بأن ينصرهم وأن يمدهم بنصر من عنده كما نصر رسوله وصحابته في بدر بأن أرسل جنودا لم يراها المسلمون .
والواجب الآخر مد يد العون والمساعدة لهم بالغذاء والدواء وكل ما يحتاجونه هذا أقل ما يكون من الروابط الأخوية فيما بيننا وبين إخواننا وأخواتنا في فلسطين.
َ{لقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (}128

عباد الله : أقول ما قد سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله ذي العظمة والجلال، أحمده سبحانه وأشكره على نعمِه المُسْداةِ في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الكبير المتعَال، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, دلّ على طريقِ الخير, وحذّر من الغوايَة والضّلال, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أولي الأحلام والنّهى.
ثم أما بعد عباد الله :" اتقوا الله حق التقوا ثم اعلموا أن الله مع المتقين

عباد الله :يوم إن استعرضنا بعض المواقف من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من النصر والغلبة والصبر والتحمل والتضحية فما أحرانا والمسلمين من الاقتداء به .
ويوم ذكرنا اخواننا في فلسطين وواجب نصرتهم بما نستطيع علنا أن نعذر أمام ربنا ، كان علينا من الواجبات الدعاء لهم والإلحاح على الله بأن ينصر أخواننا في فلسطين .
فاللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان اللهم انصرهم فوق كل ارض وتحت كل سماء.
اللهم انصر اخواننا في فلسطين اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يار ب العالمين.
اللهم انه لا ناصر لهم الا انت ولا راحم لهم الا انت ولا كاشف البلوا عنهم الا انت.
اللهم انهم جياع فاطعمهم وعراة فاكسهم وحفاة فاحملهم .
اللهم انهم لا حول لهم ولا قوة الا بك انت حسبنا وحسبهم ، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم عليك بالصهاينة اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك اللهم انك تعلم انهم يفسدون ولا يصلحون يظلمون ولا يعدلون محاربين لدينك متسلطين على شرعك وعبادك المؤمنين .
اللهم شتت شملهم وأخرس السنتهم وشل أركانهم وجمد الدماء في عروقهم اللهم تدبيرهم تدميرهم .
اللهم تعلم أنهم يمكرون فامكر بهم ويخططون فدمر تخطيطهم ويتمالؤن فخالف بين وحدتهم يارب العالمين.
اللهم يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد يا حي يا قيوم يا من لا تغلب قوتك قوة انصر عبادك المستضعفين المكلومين المضطهدين المجاهدين في فلسطين. اللهم اجمع شملهم ووحد كلمتهم وانصرهم على أعدائك واعدائهم يا رب العالمين.
اللهم صلى على محمد
عباد الله أكثر وا من الدعاء لإخوانكم في فلسطين في غزة الجريحة وخصوصا في هذا اليوم في آخر ساعة من يوم الجمعة علها ان توافق دعوة مستجابة
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن نهاية العام

نهاية العام 21-12-1429هـ

ثم أما بعد: عباد الله، إن الشمس التي تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها تحمل أعظم مشاهد الاعتبار، فطلوعها ثم غيابها إيذان بأن الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي إلى زوال وفناء وبوار. هلال الشهر يظهر صغيرًا، ثم ينمو حتى يكتمل، وليس بعد التمام إلا النقصان، ثم الزوال، وهكذا عمر الإنسان، بل والحياة كلها.
لكل شـيء إذا مـا تمَّ نقصـان فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ
هذي الأمورُ كمـا شاهدتها دولٌ من سرّه زمنٌ ساءته أزمـانٌ
أحبتي في الله، رحل عام ومضى، وطوى بساطه وانقضى، فليت شعري، ماذا أودعنا فيه؟! وماذا حفظ من أعمالنا؟! إن المؤمن لا بد وأن يعتبر بما مرّ في أيام عمره من أعمال، وبما انطوى عليه مرُّ السنين وذهابُ الآجال، على أي حال سيلقى ربه الكريم المتعال؟! قال : ((كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسه فمُوبقُها أو معتقُها)) رواه مسلم، فمنا من باع نفسه لله، وانتصر على شيطانه وهواه، ونال رضا الله وهُداه، فاجتهد بأعماله ليفوز مع الفائزين وينجو مع الناجين، فصلّى لربه وصام، وتصدّق بماله وابتعد عن فعل الحرام، ووصل رحمه وواسى الفقراء والأيتام، ومنّا غلبه شيطانه واتّبع هواه، وغرته نفسه وعمّت مصائبه وبلواه، وما تذكّر أن الله سيحاسبه على ما آتاه، فوقع في وحل المعاصي، وولج لجج الآثام.
لذلك أحبتي في الله، ينبغي للمسلم أن يقف مع نفسه ويحاسبها محاسبة جادة قبل أن تحاسب، قال عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا). ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي: "أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله" اهـ.
أحبتي في الله، وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها:
الاطلاع على عيوب النفس ومثالبها ونقائصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منزلها وبادر في إصلاحها.
ومن هذه الفوائد أن يتعرف العبد على عظيم فضل الله ومنته عندما يقارن عظيم فضل الله إلى عظيم التفريط والتقصير في جنب الله، فيكون ذلك معينًا لنفسه على ردعها، فيزكيها ويطهرها من كل عمل يهلكها، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41]، قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه كل ليلة: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله وكان لها قائدًا" اهـ.
ومن هذه الفوائد أن المحاسبة تربي عند الإنسان الضمير الحيّ داخل النفس، وتنمي الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم رحمه الله: "أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب" اهـ.
أيها الأحبة في الله، إذا كان أرباب الأعمال في الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم أسباب نجاحهم وربحهم في الدنيا، فما بالنا لا نجعل المحاسبة أهم أسباب ربحنا في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]، فكلنا في حاجة إلى محاسبة أنفسنا في الدنيا حتى ننظر ما قدمناه لغد.
ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم كثيرًا، وضربوا لنا أروع الأمثلة في محاسبتهم لأنفسهم، ولو حاولنا استقصاء ذلك لطال بنا المقام، وذلك لأنهم كانوا يربطون قلوبهم بالله، وكأن أجسادهم في الأرض وقلوبهم في السماء، فلجموا أنفسهم عن التقصير وعاتبوها وإن وقعت في اليسير، فعن أنس رضي الله عنه يقول: سمعت عمر بن الخطاب يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: (عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك)، وكان الأحنف بن قيس قد كبر سنه، فلاموه على الصوم لأنه يضعفه، فقال: "إني أعده لسفر طويل"، وكان يقول لنفسه: "لم صنعتَ كذا يوم كذا؟!" ثم يؤلمها بأنواع ألم. قال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه"، وقال حاتم الأصم: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك"، قال بلال بن سعد: "لا تكن وليًا لله في العلانية وعدوَّه في السر".
أحبتي في الله، ها نحن قد ودعنا عامًا من عمرنا، رحل بلا عودة، وفني بلا بقاء، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما جمع وحوى، فكم من حبيب فارقنا، وكم من سيئات فيه قد اجترحنا، وكم من عزيز أضحى ذليلاً، وكم غني أضحى فقيرًا، وكم من سليم أضحى سقيمًا، وكم من حوادث عظام وبلايا جسام مرت بنا، ولكن أين المعتبرون؟! وأين المستبصرون؟!
أيها الأحبة، إن الأيام واللّيالي خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد.
إنـا لنفـرح بالآجـال نقطعهـا وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الْموت مجتهدًا فإنما الربح والْخسران في العمل
وصدق القائل:
نسيرُ إلى الآجال فِي كل لحظة وأعمالنا تطوى وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيـام وهن قلائـل
فانظر ـ أيها الأخ الحبيب ـ في صحائف أيامك التي خلت: ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟! واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان؟! وماذا رأت العين؟! وماذا سمعت هذه الأذن؟! وأين مشت هذه القدم؟! وبماذا بطشت هذه اليد؟! فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، تحثّ بنا السير إلى الآخرة. سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرت، فسأل: من هذا؟ فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (هذا أنت)، يعني: أن الجميع إلى هذا المصير صائر فاستعدّ لذلك. ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: "أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده".
عباد الله : قلت ما قد سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شئ قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد العلي الكبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أهل الهدى والتقى والجهاد الكبير، وعلى السالكين طريقهم، والمقتفين أثرهم إلى قيام اليوم العسير.


اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الليل والنهار مطيتان، يباعدانك من الدنيا، ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. وسبحان الله! تتجدّد الأعوام فنقول: إنّ أمامنا عامًا جديدًا، نراه طويلاً، لكن سرعان ما ينقضي، فطوبى لعبد انتفع بعمره، فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى، وتاب إلى الله عز وجل، وعزم على أن لا يضيع ساعات عمره إلا في خير، متذكرا قول نبيه: ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) حديث صحيح، لاهجا بدعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) حديث صحيح.
فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، إنه بر رؤوف رحيم.
عباد الله صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}

اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إن نسألك الجنة وما قرب اليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب اليها من قول وعمل
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

خطبة عن التوحيد(خطر الأوثان)

نعمة التوحيد ، خطر احياء مشاعر الوثنية 16-3-1430هـ

َأمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَإِذَا ذُكِرَت نِعَمُ اللهِ وَعُدَّت فَإِنَّ أَجَلَّها وَأَفضَلَهَا تَوحِيدُ اللهِ وَإِفرَادُهُ بِالعِبَادَةِ؛ إِذ هِيَ النِّعمَةُ الَّتي لا أَعظَمَ مِنهَا وَلا أََتَمَّ، إِنَّهَا النِّعمَةُ الَّتي تَتَصَاغَرُ أَمَامَهَا كُلُّ النِّعَمِ، وَالمِنَّةُ الَّتي مَن فَقَدَهَا حَلَّت بِهِ النِّقَمُ، إِنَّهُ الغَايَةُ مِن خَلقِ الجِنِّ وَالإِنسِ، بِهِ أُرسِلَتِ الرُّسُلُ وَأُنزِلَتِ الكُتُبُ، وَلأَجلِهِ نُصِبَتِ المَوَازِينُ وَوُضِعَتِ الدَّوَاوِينُ، وَقَامَ سُوقُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَانقَسَمَتِ الخَلِيقَةُ إِلى مُؤمِنِينَ وَكُفَّارٍ، وَعَلَيهِ يَقَعُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَعَلَيهِ نُصِبَتِ القِبلَةُ وَأُسِّسَتِ المِلَّةُ، وَلأَجلِهِ جُرِّدَت سُيُوفُ الجِهَادِ، وَهُوَ حُقُّ اللهِ عَلَى جميعِ العِبَادِ، قَالَ تَعَالى: وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ ، وَقَالَ سُبحَانَهُ: كِتَابٌ أُحكِمَت آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَت مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .
بِالتَّوحِيدِ تُفَرَّجُ الكُرُبَاتُ وَتُدفَعُ العُقُوبَاتُ، وَبِتَحقِيقِهِ يَحصُلُ الهُدَى وَالأَمنُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، وَيَسلَمُ العَبدُ مِنَ الخُلُودِ في النَّارِ، وَيَنَالُ شَفَاعَةَ الحَبِيبِ ، قَالَ سُبحَانَهُ: الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لهمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ ، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((أَسعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ مَن قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِن قَلبِهِ)). مَا مِن فَضِيلَةٍ إِلاَّ وَأَسَاسُهَا التَّوحِيدُ، بِهِ يَسهُلُ عَلَى العَبدِ فِعلُ الخَيرَاتِ وَتَركُ المُنكَرَاتِ، وَهُوَ سَلوَةُ المُؤمِنِ عِندَ الأَحزَانِ وَالمُصِيبَاتِ، وَبِهِ يَصِيرُ قَلِيلُ العَمَلِ عِندَ اللهِ كَثِيرًا، وَيَغدُو صَغِيرُهُ في المِيزَانِ كَبِيرًا، وَبِهِ يَتَحَرَّرُ المُسلِمُ مِن رِقّ
المَخلُوقِينَ وَالتَّعَلُّقِ بهم وَالعَمَلِ لأَجلِهِم، فَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مِنهُ للهِ، فَلا يَرجُو سِوَاهُ وَلا يَخشَى غَيرَهُ، وَلا يُنِيبُ إِلاَّ إِلَيهِ وَلا يَتَوَكَّلُ إِلاَّ عَلَيهِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ فَلاحُهُ وَيَتَحَقَّقُ نَجَاحُهُ، وَيَحصُلُ لَهُ العِزُّ وَالتَّأيِيدُ وَالشَّرَفُ، وَيَنَالُ القُوَّةَ وَالرِّفعَةَ وَالمَنَعَةَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ مَا تَنعَمُ بِهِ هَذِهِ البِلادُ مِن صَفَاءِ التَّوحِيدِ وَنَقَاءِ المُعتَقَدِ في كَثِيرٍ مِن جِهَاتِهَا قَد أَقَضَّ مَضَاجِعَ المُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِينَ، وَكَدَّرَ الصَّفوَ عَلَى المُبتَدِعَةِ وَالمُخَرِّفِينَ، فَبَرَزَت مِنهُم في السَّنَوَاتِ الأَخِيرَةِ أَصوَاتٌ وَكِتَابَاتٌ وَمُحَاولاتٌ، أَصوَاتٌ ضَالَّةٌ وَكِتَابَاتٌ مُضِلَّةٌ، تَنُوحُ عَلَى مَا وَفَّقَ اللهُ أَهلَ هَذِهِ البِلادِ إِلى هَدمِهِ وَالقَضَاءِ عَلَيهِ مِن أَنصَابِ الشِّركِ وَمَشَاهِدِهِ، وَمُحَاوَلاتٌ لِلعَودَةِ بِالأُمَّةِ إِلى الشِّركِ بَعدَ إِذ أَنقَذَهَا اللهُ مِنهُ، وَذَلِكَ بِإِحيَاءِ أَعمَالٍ شِركِيَّةٍ وَبَعثِ بِدَعٍ كُفرِيَّةٍ، وَالمُنَادَاةِ بِالبِنَاءِ عَلَى القُبُورِ وَإِبرَازِ الآثَارِ القَدِيمَةِ، وَجَعلِهَا مَزَارَاتٍ مُعَظَّمَةً وَأَمَاكِنَ مُبَجَّلَةً، حَتى وَصَلَ الأَمرُ إِلى إِعلانِ الشِّركِ وَإِظهَارِ الكُفرِ في مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ وَبِجَوَارِ قَبرِهِ.
وَلَقَدِ اتَّفَقَت كَلِمَةُ الأُمَّةِ عَلَى التَّحذِيرِ مِن تَعظِيمِ القُبُورِ مِن لَدُن نَبِيِّهَا وَصَحَابَتِهِ الكِرَامِ وَالتَّابِعِينَ، مُرُورًا بِالعُلَمَاءِ الأَثبَاتِ وَالأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ، الَّذِينَ مَنَعُوا مِن إِسرَاجِ القُبُورِ وَإِضَاءَتِهَا وَاتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عِندَهَا، قَالَ : ((قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، وَعَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ في مَرَضِهِ الَّذِي لم يَقُمْ مِنهُ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ))، وَعَنهَا رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت: لَمَّا كَانَ مَرَضُ النَّبيِّ تَذَاكَرَ بَعضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً بِأَرضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لها: مَارِيَةُ، وَقَد كَانَت أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ قَد أَتَتَا أَرضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرنَ مِن حُسنِهَا وَتَصَاوِيرِهَا، قَالَت: فَرَفَعَ النَّبيُّ رَأسَهُ فَقَالَ: ((أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرُّجُلُ الصَّالحُ بَنَوا عَلَى قَبرِهِ مَسجِدًا ثم صَوَّرُوا تِلكَ الصُّوَرَ، أُولِئَكَ شِرَارُ الخَلقِ عِندَ اللهِ يَومَ القِيَامَةِ))، وَقَالَ : ((إِنَّ مِن شِرَارِ النَّاسِ مَن تُدرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُم أَحيَاءٌ، وَمَن يَتَّخِذُ القُبُورَ مَسَاجِدَ)).
قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رَحمهُ اللهُ: "يَحرُمُ الإِسرَاجُ عَلَى القُبُورِ وَاتِّخَاذُ المَسَاجِدِ عَلَيهَا وَبَينَهَا، وَيَتَعَيَّنُ إِزَالَتُهَا، وَلا أَعلَمُ فِيهِ خِلافًا بَينَ العُلَمَاءِ المَعرُوفِينَ"، وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: "وَالشِّركُ في بَني آدَمَ أَكثَرُهُ عَن أَصلَينِ: أَوَّلُهُمَا: تَعظِيمُ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَتَصوِيرُ تَمَاثِيلِهِم لِلتَّبَرُّكِ بها، وَهَذَا أَوَّلُ الأَسبَابِ الَّتي بها ابتَدَعَ الآدَمِيُّونَ، وَهُوَ شِركُ قَومِ نُوحٍ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَإِنَّ مَا يَدعُو إِلَيهِ بَعضُ الخداعين وَالمُنخَدِعِينَ بهم في هَذَا الزَّمَانِ مِن إِحيَاءِ آثَارِ النَّبيِّ المَكَانِيَّةِ أَو آثَارِ الصَّحَابَةِ أَو غَيرِ ذَلِكَ ممَّا يُسمَّى بِالآثَارِ الإِسلامِيَّةِ، إِنَّهَا لَفِتنَةٌ يَجِبُ التَّنَبُّهُ لها وَالحَذَرُ مِنَ الانسِيَاقِ وَرَاءَ أَهلِهَا وَالدَّاعِينَ إِلَيهَا، إِذْ مَا هِيَ في الحَقِيقَةِ إِلاَّ طَرِيقٌ لِلشِّركِ وَوَسِيلَةٌ لِلكُفرِ، وَسَبَبٌ لِلعَودَةِ إِلى الخُرَافَاتِ وَالوَثَنِيَّةِ، وَقَد لَحَظَ السَّلَفُ هَذَا الأَمرَ فَحَذَّرُوا مِنهُ وَقَطَعُوا كُلَّ سَبِيلٍ إِلَيهِ، فعَنِ المَعرُورِ بنِ سُوَيدٍ الأَسدِيِّ قَالَ: وَافَيتُ المَوسِمَ مَعَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَلَمَّا انصَرَفَ إِلى المَدِينَةِ وَانصَرَفتُ مَعَهُ صَلَّى لَنَا صَلاةَ الغَدَاةِ فَقَرَأَ فِيهَا: أَلم تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَابِ الفِيلِ ، وَ لإِيلافِ قُرَيشٍ ، ثم رَأَى أُنَاسًا يَذهَبُونَ مَذهَبًا فَقَالَ: أَينَ يَذهَبُ هَؤُلاءِ؟ قَالُوا: يَأتُونَ مَسجِدًا هَا هُنَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللهِ ، فَقَالَ: إِنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُم بِأَشبَاهِ هَذِهِ، يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَنبِيَائِهِم فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، وَمَن أَدرَكَتهُ الصَّلاةُ في شَيءٍ مِن هَذِهِ المَسَاجِدِ الَّتي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَلا يَتَعَمَّدَنْهَا. وَعَن نَافِعٍ قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أَن نَاسًا يَأتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتي بُويِعَ تَحتَهَا فَأََمَرَ بها فَقُطِعَت.
عباد الله إَنَّ أَصحَابَ النَّبيِّ وَرَضِيَ اللهُ عَنهُم أَعلَمُ النَّاسِ بِدِينِ اللهِ وَأَحَبُّ النَّاسِ لِرَسُولِ اللهِ وَأَكمَلُهُم نُصحًا للهِ وَلِعِبَادِهِ، وَلم يُحيُوا هَذِهِ الآثَارَ وَلم يُعَظِّمُوهَا وَلم يَدعُوا إِلى إِحيَائِهَا، وَلو كَانَ إِحيَاؤُهَا أَو زِيَارَتُهَا أَمرًا مَشرُوعًا لَفَعَلَهُ النَّبيُّ في مَكَّةَ وَبَعدَ الهِجرَةِ، أَو أَمَرَ بِذَلِكَ أَو فَعَلَهُ أَصحَابُهُ أَو أَرشَدُوا إِلَيهِ".
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاحذَرُوا دُعَاةَ الضَّلالَةِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِليَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا


لخطبة الثانية :

الحمد لله ذي العظمة والجلال، أحمده سبحانه وأشكره على نعمِه المُسْداةِ في الحال والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الكبير المتعَال، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله, دلّ على طريقِ الخير, وحذّر من الغوايَة والضّلال, صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أولي الأحلام والنّهى.

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَعَضُّوا عَلَى التَّوحِيدِ بِالنَّوَاجِذِ حَتى تَلقَوا رَبَّكُم عَلَيهِ، وَاحذَرُوا ممَّا يُرَوِّجُ لَهُ أَعدَاءُ اللهِ بإدعائاتهم، وَلا تَغتَرُّوا بِزَعمِهِم مَحَبَّةَ رَسُولِ اللهِ أَو تَعظِيمَ آلِ بَيتِهِ، حَيثُ يُقِيمُونَ المَوَالِدَ وَيُحيُونَ المَشَاهِدَ، وَيُعَظِّمُون القُبُورَ وَيُقَدِّمُونَ لها النُّذُورَ، وكُلُّ ذَلِكَ بِدَعٌ وَمُحدَثَاتٌ، لم يَأذَنْ بِهَا اللهُ وَلا رَسُولُهُ، وَلم يَفعَلْهَا الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلا الصَّحَابَةُ المَرضِيُّونَ، وَلم يَصنَعْها أَهلُ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ، وَمَن فَعَلَهَا فَإِنما هُوَ تَابِعٌ لِلمَغضُوبِ عَلَيهِم وَالضَّالِّينَ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللهُ أَن نَدعُوَهُ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِنَا أَن يُجَنِّبَنَا طَرِيقَهُم، وَحَذَّرَنَا نَبِيُّنَا مِن اتِّبَاعِ سَنَنِهِم، قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((وَمَن دَعَا إِلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيهِ مِنَ الإِثمِ مِثلُ آثَامِ مَن تَبِعَهُ لا يَنقُصُ ذَلِكَ مِن آثَامِهِم شَيئًا)

عباد الله : صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم ارزقنا حبك وحبَ من يحبك وحبَ كلِ عمل صالح يقربنا من حبِك، أعمر بمحبتك قلوبَنا، وأنزل سكينتك على نفوسنا
اللهم اجعلنا ممن أطاعك واتقاك واتبع رضاك 3
اللهم انا نسألك الهدى واتقى والعفاف والغنى
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عن من سواك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد

خطبة عن نصر الله

أيها المؤمنون، منذ ابتدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم يصدع بما يؤمر، من يومها كان الإسلام يخوض معركته الأزلية الأبدية مع الكفر، المعركةَ التي تمتد جذورها إلى قصة خلق آدم عليه السلام، وتستمر فصولها إلى اللقاء الحاسم بين المسيح عيسى ابنِ مريم عليه السلام والمسيح الدجال، منذ بزغ نور هذه الرسالة كان الرعيل الأول من المؤمنين يلاقي ألوان الظلم والاضطهاد في سبيل الله، وكان القرآن يهيئوهم لهذا الابتلاء العظيم، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ .
ولقي المؤمنون في الطريق ما لقوا، رجالا ونساء، اعترضتهم الصعاب ولكنهم لم يتراجعوا أبدا، كان الجمر يُطفَأ في ظهورهم، والصخر الحار يسحب على صدورهم، حُبسوا وجُوّعوا وأهينوا وضُربوا وأُخذت أموالهم وأُخرجوا من ديارهم، لقي رسول الله وهو أكرم الخلق على الله ما لقي من الأذى، طُلقت بناته، واستهزئ به، وأوذي في الله وما يؤذى أحد، وأُخيف في الله وما يُخاف أحد، في تلك الأجواء المشحونة بالظلم أقبل خَبَّابُ بْن الأَرَتِّ وهو الرجل الذي كان يُكوى رأسه بالحديد المحمى وتوقد تحته النار فما يطفئها إلا الدُّهن الذي يذوب من ظهره، أقبل على رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، يشكو إليه هو وأصحابه ويقولون: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟! أَلا تَدْعُو لَنَا؟! فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، فَقَالَ: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)) رواه البخاري. كان يمرُّ على آل ياسر وهم يعذبون، فلا يملك إلا أن يقول لهم: ((صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)).
واضطر المستضعفون إلى ترك مكة، خرجوا يهيمون على وجوههم قِبل أرض لم يعرفوها ولم يألفوها، تسللوا خفية يكتنفهم ظلام الليل وموج البحر، ويقلقهم هاجس قريش في آثارهم، وهناك ما إن بلغهم أن قريشا لانت شيئا ما حتى عاد القوم أدراجهم إلى مكة، دخلوها أخوف منهم حين غادروها، وتبين لهم أن قريشا لم تزدد إلا شراسة وطغيانا، فانضم إليهم غيرُهم وخرجوا إلى الحبشة مرة ثانيةً فارين بدينهم.
وفي مكة يستمر مسلسل الكيد والظلم، ويُفرض الحصار الظالم على بني هاشم وبني عبد المطلب، حتى يُسلموا محمدا للقتل. كُتب الميثاق في مكة، وعُلّق في جوف الكعبة.
حوصر بنو هاشم وبنو عبد المطلب مؤمنُهم وكافرُهم في شعب أبي طالب ثلاثة أعوام، حتى أكلوا الأوراق والجلود، وكانت تُسمع مِن وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، مؤمنهم وكافرهم، أيُّ ضغط نفسي يعانيه وهو يرى قرابته يعذبون بسببه؟! إن كان أتباعُه اختاروا الطريق ورضوا الجنة ثمنا فما بال المشركين مِن قرابته حُبسوا معه وأبوا أن يتخلوا عنه؟!
ألوانٌ من الأذى، صورٌ من البلاء، في تلك الأجواء يتنزل القرآن على قلب النبي فيتلوه على مَن معه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . إنهم يتمنون أن تتنازل قليلا، أن تتراجع ولو شيئا يسيرا، أن تقبل أنصاف الحلول، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ . أليس هو المستضعف؟! أليس المؤمنون هم المضطهدون؟! أليس الذي ينزف هو دماؤهم؟! ألَمْ يَطُل الأذى أطفالهم ونساءهم؟! بلى، ولكن المسألة ليست موازنات مادية، ولا صراعا دنيويا، إنها في حسابهم أثمانٌ مهما غلتْ فهي رخيصة جدا في مقابل السلعة التي اشتروها، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . كل شيء محسوب، كل تضحية مضمونة، كل جرح حتى الشوكة يشاكها، كل ذلك محفوظ، وعند الله في ذاك الجزاءُ.
كان القرآن يتنزل مثبتا مؤيدا، يملأ القلوب يقينا وإيمانا، فيعطيها القوة التي تهزأ ببطش الجبارين، وتستخف بتهديد الظالمين. كان بلال وهو يُعذب يقول: (أحَد أحَد)، ويقول: (لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها)، يكررها فإذا هي عليهم أشدُّ من عذابهم عليه، وتكون العاقبة بعد ذلك لبلال الذي سمع النبي دَفَّ نعليه ـ حركة مشيه خطواته ـ بين يدي النبي في الجنة.
كان القرآن يقصُّ عليهم القَصص؛ ليربط على قلوبهم ويُثبت أقدامهم، قصّ عليهم فيما قصّ قصة أصحاب الأخدود، قصة الفئة التي آمنت بالله رب الغلام، فحفر لها الطغاة أخدودا عظيما، وأوقدوا فيه نارا عظيمة، حتى صار الأخدود كله نارا، ثم أوقفوا المؤمنين المستضعفين الأبرياء العُزْل، أوقفوهم على شفيرها، وخيروهم بين الكفر وبين النار ذات الوقود، فاختار المؤمنون الثبات على الإيمان والصبر والاحتساب، وآثروا الباقية على التي تفنى، فتهاوت أجسادهم إلى النار، وصعدت أرواحهم إلى جوار الرحيم الكريم. كان مِن بين تلك الفئة المؤمنة امرأة تحمل طفلا رضيعا، طفلا لم يخرج إلى الحياة إلا منذُ أشهر قليلة، لم يسعفه الوقت ليرى من الدنيا شيئا قبل أن يرى ذلك الأخدود الملتهب، وتلفحَ حرارتُه وجهَه الغضّ الطري، نظرت الأم إلى طفلها الذي ستذوب عظامه بين يديها، فتلكأت وتراجعت وهي تتخيل هذه البراءة تحترق في أتون الظلم، كانت النار التي في جوفها أشد من النار التي تملأ الأخدود أمام عينيها، في تلك اللحظة أنزل الله السكينة على قلبها، ترك طفلها ثديها، ونظر إليها وقال: يَا أُمَّاه، اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. رواه مسلم.
وقُتل المؤمنون جميعا، فنيت أمة مؤمنة بأكملها، أمةٌ كانت هدايتها على يد الغلام الذي اختار أن يموت ليحيا بموته الناس، فآمن الناس بالله رب الغلام، وتعلموا من موته الثبات على الحق، فثبتوا، فقتلوا جميعا، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، محاهم الظلم بين عشية وضحاها، فماذا سمى الله موقفهم؟! وبماذا وصفه؟! لقد سماه الله جل في علاه: فوزًا، ووصفه بما لم يصف به أيّ فوز آخرَ في القرآن: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ، وليس في كتاب الله فوزٌ وُصف بالكبير إلا فوز تلك الفئة المؤمنة التي أُحرقت في الأخدود، إنه الفوز الكبير، أكبرُ من حدود الدنيا، أوسعُ من آفاقها، أبعدُ من آمادها، أعظم من كل نعيمها، أجل من كل زينتها، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ .
هكذا توزن التضحيات، وهكذا تُقاس المواقف، هكذا ينظر المؤمنون إلى البلاء إذا ابتلوا. إن دماءَ إخواننا المؤمنين غالية، أغلى من النفط الذي يعمي بصائرنا، وأنفاسَهم ثمينة أثمن من الغاز الذي يخنق ضمائرنا، ولكنها لن تذهب عند الله هدرا أبدا، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ .
الخطبة الثانية__
أيها المؤمنون، لما خرج النبي وأصحابه يريدون قافلة قريش كان الله من فوق سبع سماوات يريد شيئا آخر، يريد مغنما أعظم، يريد نصرا أكبر. خرج المؤمنون في آثار القافلة، فأفلتت منهم، ولكنّ قريشا لم ترجع مع الخبر أدراجها، بل أصرت أن تقيم ببدر ثلاثة أيام حتى يتسامع بها العرب فيهابوها. وأراد الله أن تكون بدرٌ مسرحا للنصر العظيم، وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ .
التقى الجيشان، والقوة المادية تُثقل ميزان قريش، كانوا أكثر عدة وعتادا، وكان المؤمنون إنما خرجوا يريدون القافلة، لم يتهيؤوا للقتال، ولم يُعدّوا له العدة، ولكنهم أجمعوا أمرهم، واختاروا ما اختاره الله لهم، فقال قائلهم: والذي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْت هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا تخلّف مِنّا رَجُلٌ، فَصِلْ مَنْ شِئْت، وَاقْطَعْ مَنْ شِئْت، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْت، وَمَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِنَا أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا تَرَكْت، فقال : ((سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ، فَإِنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ، وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ)).
ولما التقى الجمعان صف رسول الله الصفوف، ثم رَجَعَ إلَى العريش وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، ووقف يُنَاشِدُ رَبّهُ يَقُولُ: ((اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ فلن تعبد في الأرض أبدا))، يرفع يديه ويلح على الله، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فردّ أَبُو بَكْرٍ الرداء وقال: يَا نَبِيّ اللّهِ، بَعْضَ مُنَاشَدَتِك رَبّك، فَإِنّ اللّهَ مُنْجزٌ لَك مَا وَعَدَك. وما إن أرخى يديه حتى تلاحقت المبشرات، رأى مصارع القوم، وبشّر بالنصر، أنزل السكينة على قلوب المؤمنين حتى خفقت رؤوسهم من شدة النعاس، وأوحى إلى الملائكة فثبتتهم، وحملت السلاح تقاتل معهم، وأنجز الله وعده، ونصر عبده، وجعلها ذكرى لمن كان له قلب، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . كنتم أذلةً ضعفاء، أقل عَددا، وأخفّ عُددا، ولكن الله ثبتكم وأيدكم ونصركم.
أيها المؤمنون، تاريخ البشرية كلُّه شاهد أنه لم تكن قطّ مقاومة أقوى من المعتدي، أو حتى في مثل قوته، ومع ذلك كانت الإرادة تملأ قلوب المضطهدين وتشحذ عزائمهم، فينتصرون على الظلم والطغيان في كل حروب الاستقلال؛ في فيتنام والهند وجنوب أفريقيا، الكل صمد حتى انتصر، أولئك الذين لا يرجون الله واليوم الآخر، بذلوا التضحيات العظيمة، ثمنا للنصر والتمكين، كانوا يتقدمون إلى مصارعهم لأجل النصر فقط، يُقتل من يُقتل منهم ليحيا من وراءه. أما المؤمنون فهم بين إحدى الحسنيين: إما النصر أو الشهادة. نصف الأنصار قُتلوا بين يدي رسول الله ، فسماهم الله أنصارا.
عباد الله : صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال عز من قائل {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.