الأحد، مايو 23، 2010

خطبة عن محبة الله

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد:
أيها الأحبة في الله، النفوس مجبولة على حب من أنعم عليها، ساعية إلى مرضاة من أحسن إليها، فكيف بمن كل نعمة فهي منه، وكل إحسان فهو المتفضل به، وكل جميل فهو صاحبه، وكل لطف فهو موليه، وكل ضر فهو كاشفه، وكل بلاء فهو رافعه؟! هل يليق بالعاقل أن يفرط في جنبه أو يتعدى حدوده أو يستهين بأمره ونهيه؟!
معاشر الأحبة، إن محبة الله جل وعلا قوتُ القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، فيها تنافس المتنافسون، وإليها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبرَوح نسيمها تروَّح العابدون، فهي الحياة التي من فقدها فهو من جملة الأموات، والنورُ الذي من حُرمه تاه في بحار الظلمات.
محبة الله شفاء القلوب من أسقامها، وراحة النفوس من آلامها، وهي روح الأعمال التي متى خلت منها صارت كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها.
ومحبةُ الله جل وعلا مطايا الصالحين إلى جنات النعيم، فالمحب لله سبحانه وتعالى يعبده بلذَّة ويطيعه برغبة، فعبادة الله جل وعلا قائمة على ركنين هما غاية المحبة لله مع غاية التذلّل له:
وعبادة الرحمـن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
ولا تكون المحبة صادقة إلا إذا اقترنت بالخوف والرجاء، فالمحبة بلا خوف عبادة المغرورين، وهي بلا رجاء عبادة القانطين.
أيها الأحبة، إن محبة الله جل وعلا ولزومَ عتبة عبوديته هي غاية النفوس الشريفة؛ لذا فقد سعى في تحصيلها أولو الهمم النبيلة بكل وسيلة.
وإن مما ترسخ به محبة الله سبحانه وتعالى في القلوب معرفته سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، فكم في أسمائه وصفاته من موجبات محبته لمن تأملها، فهو الودود الذي يود أولياءَه، ويحبّ المتقين والصادقين والمحسنين، ويحب التوابين والمتطهرين، وهو التواب يفرح بتوبة التائبين، وهو الرحمن الرحيم الذي برحمته ترحم الأم وليدها، وهو العفو الغفور الوهاب الرزاق الكريم.
أما عن علامات المحبة الصادقة فمنها دموع العين من خشية الله، وحياء العبد أن يراه مولاه حيث نهاه، والوجل عند ذكر الله، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].
ومن علامات المحبين أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، مجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم في الله، كما أخبر عنهم ربهم جل في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
ومن علاماتها الأنس بالله، وكراهة كلِّ ما يشغل العبد عن مولاه.
ومحبة الله ـ معاشر المؤمنين ـ سبب لكل توفيقٍ وتسديد، كما أخبر النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا فقال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). فمن تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه، فإذا أحبه وفقه وسدّده في سمعه وبصره وحركات يده وخطوات رجله، فهو موفق محفوظ سعيد محظوظ، وهذا لا يكون إلا لمن عمر قلبه بمحبة مولاه.
عباد الله، على قدر محبة العبد لله يكون شوقُه للقائه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
ومحبة الله من آكد الفروض على العباد، فقد قال سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]، وهذه الثمانية المذكورة في الآية هي رأس المحبوباتِ الدنيوية، فمن قدمها على محبة الله فقد ناله الوعيد من ذي البطش الشديد.
وإذا رضي الله تعالى على عبد فرَّغ قلبه لمحبته ولسانَه لذكره وجوارحه لطاعته، وإذا سخط على عبد شغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، وشغل لسانه بذكرهم، وشغل جوارحه بخدمتهم، فهو يكدح في خدمة العبيد؛ لينال طُعمة أو رتبة، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبُلوا برقّ النفس والشيطان
أما إن سألتم عن الأسباب التي يقوّي بها العبد محبته لله فمنها ذكر الله وتلاوةُ كتابه والإكثار من النوافل وموالاةُ أولياء الله ومعاداةُ أعداء الله، فمن والى في الله وعادى في الله فقد برهن على محبته لمولاه، وقد قال النبي : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولهُ أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
ومما تقوى به محبة الله في النفس مشاهدةُ برِّه وإحسانه وآلائهِ الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
ومنها انكسارُ القلب بين يدي الرب ومناجاته سبحانه وتعالى في السحر وحفظه في الخلوات.
ومنها مجالسة أهل محبته ومباعدة كلّ سبب يحول بين القلب ومولاه.
أما عن ثمرات محبة العبد لمولاه فمنها أنه يكون منشرح الصدر طيب العيش هانئ البال محببًا إلى الخلق، تَقر العيون برؤيته، وتطيب المجالس بحديثه، فإن العبد متى أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله له ما بينه وبين خلقه، وجعل له مهابة في النفوس وجلالةً في العيون.
ومن ثمراتها أن المحبّ لله لا ييأس على ما فاته من الدنيا؛ لأنه محبٌّ لمالكها ومدبّر أمورها، فلا ينافس في عزها، ولا يجزع من ذُلها؛ لأن محبة المولى قد ملكت عليه قلبه وتخللت مسالك روحه، ولسانُ حاله يقول:
إذا نلت منك الودَّ يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب ترابُ
ومن ثمرات المحبة أنها تورث صاحبها العزة، فالمحب لله عزيز بمولاه، وكما أن خادم الملك في الدنيا أعز من خادم الوالي، فكيف بمن كان عزه بالله؟!
قوم تخلّلهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه
فسبحانه من إله عظيم ورب كريم، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، خيره إلى العباد نازل، وشرُّهم صاعد، يتودّد إلينا بالنعم ويُجازى بالجحود، يقبل المنيبين، ويُمهل المذنبين، ويفرح بتوبة التائبين، ويستر العاصين، ويقيل عثرات العاثرين، ويغفر للمستغفرين، ويفتح باب الأمل للقانطين، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الحمد لله على نعمه قديمها وحادثِها، وأشهد أن لا إله إلا الله ربُّ السموات والأرض وخالقها ووارثُها، فله الحمد عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
وبعد: معاشر الأحبة، فإن محبة الله سبحانه وتعالى شجرةٌ طيبة، متى غُرست في القلب أثمرت كلَّ عمل صالح وخُلقٍ كريم، والمحبة موافقةُ الله سبحانه وتعالى في السر والعلن، وسفر القلب في طاعة الله، ولهج اللسان بذكره على الدوام، وهي مفتاح كل فوز ونجاح، وسبب كل سكينة وفلاح، وهي سعادة الدارين، وطيبُ الحياتين، من نالها فقد نال كل شيء، ومن فاتته فقد فاته كل شيء. قال بعض الصالحين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته.
اللهم ارزقنا حبك وحبَ من يحبك وحبَ كلِ عمل صالح يقربنا من حبِك، أعمر بمحبتك قلوبَنا، وأنزل سكينتك على نفوسنا
اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله، {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق